المدونة

إدارة التقاعد

إدارة التقاعد



السعادة التي ينشدها الناس على اختلاف أعمارهم وظروفهم منبعها من الداخل، في حين ينتظرها البعض من الآخرين
أو من الأشياء والأحداث حولهم، ولا شك أن نظرة الإنسان لنفسه هي ذاتها التي تحدد نظرة الآخرين إليه بشكل غير مباشر،
فبعض المتقاعدين ينتظر من الآخرين أن يأمنوا له السعادة التي سرقت منه باعتبار أن العمل كان يشكل مصدر هذه السعادة،
ولو بحث عنها لوجدها في داخله.

يصل المتقاعد إلى مرحلة أخرى من حياته تحتاج إلى تخطيط مسبق، ومهارات معينة عليه أن يكتسبها قبل أن يسقط
في دوامة من الفراغ والملل ولوم الذات والآخرين، وما يترتب على ذلك من الأزمات النفسية كالقلق والاكتئاب،
ويحقق السعادة التي لربما لم تأمنها له الفترة السابقة خلال سنوات عمله الطويلة.

في الوقت الذي يشكل فيه سن التقاعد أزمة لبعض الناس في الدول العربية نجد من الطريف أن لدى بعض الدول الأوربية
علما مختصا لدراسة التقاعد أسمته (علم نفس التقاعد) ، حيث وظفت فيه الكثير من الخبراء والمختصين، وأنشأت له
مؤسسات خاصة نتج عنها الكثير من المؤلفات التي لم تترجم إلي العربية للأسف، والمشاريع الخاصة والخيرية،
ومن هنا يأتي القصور في نشر ثقافة التقاعد ومحو الصورة السلبية عنه باعتباره نهاية الحياة وبوابة الأمراض النفسية
والجسدية، ولقد كان من باب أولي أن يستفاد من تلك الشريحة نظرا للخبرة التي يتمتعون بها سواء في مجال أعمالهم
المختلفة أو خبرتهم في العلاقات الاجتماعية الناتجة عن تلك الأعمال، أو هواياتهم التي لم يستطيعوا استغلالها أثناء
انشغالهم بالعمل. 

يصنف ذلك العلم الخاص بالتقاعد الأشخاص حسب نظرتهم للعمل، بحيث نجد من يحب العمل لذاته، ومنهم من يحبه لأجل
العمل نفسه، ومنهم من يحب الاستقلال الذي ينتج عن العمل، ثم تتعامل مع كل شخص حسب نظرته للعمل، ثم يأتي بعد
ذلك تعريف الشيخوخة باعتبارها المعيار الذي قامت الدول بتحديد سن التقاعد بناء عليه. 

إن الشعور بالملل والعجز الذي يتبع مرحلة التقاعد كفيل بأن يثبت الخطأ الذي يرتكبه أغلب الموظفين بعد تقاعدهم،
وإن من المفارقة الغريبة ما نجده لدى بعض الموظفين الذين يصابون بالصدمة عند إحالتهم على التقاعد رغم أن سن
التقاعد معروف لديهم، ومحدد باليوم والتاريخ أحيانا.


وهنا لا بد أن أشير إلى ما يسمى بإدارة التقاعد كمهارة لابد أن يتدرب عليها الموظف قبل أن يصل السن المحدد والذي يختلف
باختلاف البلدان، ففي حين أن سن التقاعد قد يصل إلى ٦٧ عاما في بعض الدول الأوربية، مازال بتأرجح بين ٦٠ وال ٦٢ كحد
أقصى في الدول العربية، ورغم أن الكثيرون يرون في هذا القانون إجحافا وتعسفا، يجد آخرون في هذه المرحلة فسحة من
الوقت لمزاولة أعمال كانت مؤجلة إلى أجل غير مسمى، ونحن هنا لا نتحدث عن صلاحية تحديد سن معين للتقاعد وإنما
نبحث في دائرة التأثير وهي التعامل مع التقاعد.

ينغمس الشخص المتقاعد في النظرة السلبية لهذه المرحلة فيشعر فيها بأنه أصبح فائضا عن حاجة المجتمع، وأن كل ما قدمه
من سنوات شبابه وقوته ذهبت هباء منثورا لموظف أقل منه خبرة، ولا يمكن أن نغفل بحال من الأحوال أن الزمن هو العامل
الأساسي الذي يحدد هذه المرحلة دون اكتراث لذات الشخص وكفاءته أو قدرته على مواصلة العمل، وهي المشكلة التي قد
تصيب الموظف المتقاعد بالإحباط والاكتئاب والنظرة التشاؤمية للحياة.

كل هذا يأتي تباعا بعد أن يتوقف الموظف عن الذهاب إلي عمله سواء كان يحب هذا العمل أو لا يحبه، ولكن لأنه أصبح جزءا
لا يتجزأ من حياته وعاداته اليومية، وإذا كان التغيير صعب على أغلبية الناس فمن باب أولى أن يكون أكثر صعوبة على من
تقدم في السن، وصارت هذه العادات الأساس الذي تقوم عليه تفاصيل حياته.

قد يجد البعض بأن الجلوس في المنزل والتوقف عن الحركة نوع من فرض الإقامة الجبرية، ويجد آخرون عدم الالتقاء ببقية
الزملاء وانقطاع العلاقات بشكل جزئي نوع من الغربة، بينما يرى آخرون أن التوقف عن العمل بحد ذاته نوع من سرقة العمر. 

لابد أن كل هذه الأمور قد جالت في خاطر الموظف المتقاعد، وربما خالجته مشاعر أكثر حدة أو أقل بحسب توقعاته، ولم يفكر
يوما بأن يستعد لهذه المرحلة ويحدد أهدافا جديدة ويخلق فرصة أخرى قد تعود عليه بأضعاف سعادته أثناء عمله، يبحث
الكثيرون عن فرصة لتطبيق مهاراتهم وهواياتهم المفضلة، ثم ينسون ذلك عندما تتاح لهم الفرصة بعد التقاعد.

كثير من الأبواب المغلقة قد تنفتح عن آخرها عند تفرغ الإنسان وتوفر الوقت الذي كان مزدحما قبل ذلك، فلو كان الشخص الذي
أحيل علي التقاعد يري في نفسه القوة كان من باب أولي أن يستغلها في عمل شيء يحبه ويستمتع به، ومن هنا تأتي إدارة التقاعد
بحيث يبدأ الموظف يبحث عن مجال يحبه قبل الوقت المحدد، فيتعلم ما أمكنه أن يتعلم ثم ينتقل من العمل لدي مؤسسة أو شركة
دائرة حكومية إلي العمل لدى ما يحبه ، فقد يفتح مشروعا خاصا إذا كان لا يزال يرغب في العمل، وقد يتفرغ للكتابة والتأليف
إذا كان ممن يحب المطالعة والكتابة ، كما يمكن أن يعتبر هذه المرحلة شهر عسل متأخر قد يذهب و يسافر فيه مع شريك حياته
إذا توفر المال ، أو قد يبدأ في تعلم أشياء لطالما رغب في تعلمها ، وقد يرغب في أخذ قسط وافر من الراحة و التفرغ لعبادة الله
والتأمل في ملكوته.

لا يجب عليه في أي حال من الأحوال أن يهمل صحته الجسدية أو النفسية، ولا يجب أيضا أن يترك هذه المرحلة تأثر على حياته
أو علاقته بالآخرين فالتخطيط المسبق والمدروس بمنهجية يجنب ذلك الشخص الكثير من المشاكل النفسية التي قد تصيبه.

كما أن الرغبة وتحديد الهدف والحب لما يفعله هي أهم وقاية ضد هذه الأزمات النفسية، مهما كان الشيء الذي اختار أن يفعله
ويستأنف فيه حياته، ويواصل أداء دوره.

يكفي أن نقول بأن تجربة التقاعد تختلف باختلاف الشخص نفسه، ففي حين يراه البعض طوق النجاة من المشقة والعذاب والدوام الطويل،
يراه آخرون حكم بالإقامة الجبرية، وهنا يأتي دور الإنسان نفسه في إحكام السيطرة علي نفسه وتحديد ما يريده بالضبط، كما لابد أن يبدأ
الشخص بالتخطيط المبكر لهذه المرحلة كما أسلفنا، حتى إذا جاءت كانت بداية لمرحلة جديدة قد تحمل في طياتها أجمل اللحظات التي
قد يحيياها المتقاعد، والتي قد تضاهي بجمالها لحظات العمل السابقة.
Chat on WhatsApp